الشيح جمال فراج يكتب: حَافِظْ عَلَى كُلِّ قَطْرَةِ مَاءٍ .. وَاحْذَرْ مِنَ القِمَارِ بِكُلِّ صُوَرِهِ في خطبة الجمعة

الحمدُ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونتوبُ إليهِ ونستغفرُهُ ونؤمنُ بهِ ونتوكلُ عليهِ ونعوذُ بهِ مِن شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، ونشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأنَّ سيِّدَنَا مُحمدًا عبدُهُ ورسولُهُ أمَّا بعدُ:

أولًا:  أهميةُ الماءِ في الإسلامِ.

إنَّ الماءَ نعمةٌ مِن اللهِ عظيمةٌ وهبةٌ مِن المولَى جزيلةٌ، بهِ تدومُ الحياةُ، وتعيشُ الكائناتُ، وتخضرُّ الأرضُ وتنبتُ مِن كلِّ زوجٍ بهيجٍ، وهو عنصرُ الحياةِ وسببُ البقاءِ، قالَ تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ}(الأنبياء: 30)، وهو أغلَى مِن المُلكِ وأثمنُ مِن الجواهرِ، وهو نعمةُ اللهِ الكُبرَى ومنتهِ العُظمَى، ومِمَّا يؤكدُ أنَّهُ أغلَى مِن المُلكِ هذه القصةُ الرائعةُ: فقد رويَ أنَّ ابنَ السماكِ دخلَ على هارونَ الرشيدِ الخليفةِ العباسِي يومًا، فاستسقَى الخليفةُ فأُتِىَ بكأسٍ بهَا، فلمَّا أخذَهَا قال ابنُ السماكِ: على رسلِكَ يا أميرَ المؤمنين! لو مُنعتَ هذه الشربةَ بكمْ كنتَ تشتريهَا؟! قال: بنصفِ مُلكِي. قال: اشربْ هنأكَ اللهُ تعالى يا أميرَ المؤمنين. فلمَّا شربهَا قال: أسألُكَ باللهِ لو مُنعتَ خروجَهَا مِن بدنِكَ بماذا كنتَ تشترِى خروجَهَا؟! قال: بجميعِ ملكِي. قال ابنُ السماكِ: لا خيرَ في ملكٍ لا يساوِي شربةَ ماءٍ. فبكَى هارونُ الرشيدُ …

 يا اللهُ !! ملكٌ يمتدُّ مِن الصينِ شرقاً إلى المحيطِ الأطلسِي غرباً لا يُساوِي شربةَ ماءٍ ..!!!

ولأهميةِ الماءِ في جميعِ شئونِ حياتِنَا أنَّ اللهَ جعلَهُ ليسَ لهُ لونٌ ولا طعمٌ ولا رائحةٌ!! فلو كانَ للماءِ لونٌ لتشكلتْ كلُّ ألوانِ الكائناتِ الحيةِ بلونِ الماءِ الذي يُشكلُ معظمَ مكوناتِ الأحياءِ، ولو كان للماءِ طعمٌ لأصبحتْ كلُّ المأكولاتِ مِن الخضارِ والفواكهِ بطعمٍ واحدٍ، وهو طعمُ الماءِ، فكيفَ يُستساغُ أكلُهَا؟!! {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (الرعد: 4)، ولو كانَ للماءِ رائحةٌ لأصبحتْ كلُّ المأكولاتِ برائحةٍ واحدةٍ، فكيفَ يُستساغُ أكلُهَا بعدَ ذلك؟! لكنْ حكمةُ اللهِ في الخلقِ اقتضتْ أنْ يكونَ الماءُ الذى نشربُهُ ونسقِيَ بهِ الحيوانَ والنباتَ ماءً عذبًا أي بلا لونٍ ولا طعمٍ ولا رائحةٍ. فهل نحن أدينَا للخالقِ حقَّ هذه النعمةِ فقط؟!

ولم تقفْ الحكمةُ في ماءِ الحياةِ! ولكن انظرْ إلى هذه المياهِ المختلفةِ، فهذا ماءُ الأذنِ مرٌّ، وماءُ العينِ مالحٌ، وماءُ الفمِّ عذبٌ! فاقتضتْ رحمةُ اللهِ أنّهُ جعلَ ماءَ الأذنِ مُرًّا في غايةِ المرارةِ؛ لكى يقتلَ الحشراتِ والأجزاءَ الصغيرةَ التي تدخلُ الأذنَ، وجعلَ ماءَ العينِ مالحًا؛ ليحفظَهَا لأنَّ شحمتهَا قابلةٌ للفسادِ فكانتْ ملاحتُهَا صيانةً لهَا، وجعلَ ماءَ الفمِّ عذبًا؛ ليُدرَكَ طعمُ الأشياءِ على ما هي عليهِ إذ لو كانتْ على غيرِ هذه الصفةِ لأحالَهَا إلى غيرِ طبيعتِهَا، حقًّا لا نملكُ إلّا أنْ نقولَ: سبحانَ اللهِ !!!

إنَّ الماءَ سلاحٌ ذُو حدينِ: فهو جندٌ مِن جنودِ اللهِ يهلكُ بهِ العاصين، ورحمةٌ مِن رحماتِهِ يرحمُ بهَا المؤمنين.

فهو رحمةٌ ونعمةٌ في إنباتِ الأرضِ وكثرةِ خيراتِهَا. {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}. (الحج: 5)، وهو رحمةٌ مِن اللهِ حيثُ حملَ موسَى الرضيعَ وهو في التابوتِ على مائِهِ، {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}. (القصص: 7). ورحمَ اللهُ بهِ رسولَنَا  وصحبَهُ الكِرامَ يومَ بَدْرٍ، وثبتَهُم وربطَ على قلوبِهِم. {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ}. (الأنفال: 11). 

وعذَّبَ اللهُ بهِ أقوامًا، فأغرقَ بالماءِ قومَ نوحٍ لمَّا كفرُوا باللهِ وخالفُوا أمرَهُ، وأغرقَ بهِ فرعونَ وجندَهُ بعدَ تفاخرِهِ بالماءِ {وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ}.(الزخرف: 51)، فأبَى اللهُ إلّا أنْ يجريهَا مِن فوقِهِ. وأغرقَ سبأَ بالسيلِ العَرِمِ لمَّا أعرضُوا عن أمرِ اللهِ، قالَ تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ}. (سبأ: 16).

وحيثُ إنَّ الماءَ سلاحٌ ذُو حدينِ فكانَ مِن هديهِ أنْ يضرعَ إلى اللهِ عندَ القحطِ، وعندَ كثرتِهِ تهدمُ البيوتُ.

فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ  يَخْطُبُ يَوْمَ جُمُعَةٍ، فَقَامَ النَّاسُ، فَصَاحُوا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَحَطَ المَطَرُ، وَاحْمَرَّتِ الشَّجَرُ، وَهَلَكَتِ البَهَائِمُ، فَادْعُ اللَّهَ يَسْقِينَا، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اسْقِنَا» مَرَّتَيْنِ، وَايْمُ اللَّهِ، مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً مِنْ سَحَابٍ، فَنَشَأَتْ سَحَابَةٌ وَأَمْطَرَتْ، وَنَزَلَ عَنِ المِنْبَرِ فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ، لَمْ تَزَلْ تُمْطِرُ إِلَى الجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ  يَخْطُبُ، صَاحُوا إِلَيْهِ تَهَدَّمَتِ البُيُوتُ، وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يَحْبِسْهَا عَنَّا، فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا» فَكَشَطَتْ المَدِينَةُ، فَجَعَلَتْ تَمْطُرُ حَوْلَهَا وَلاَ تَمْطُرُ بِالْمَدِينَةِ قَطْرَةٌ، فَنَظَرْتُ إِلَى المَدِينَةِ وَإِنَّهَا لَفِي مِثْلِ الإِكْلِيلِ. (البخاري).

ثانيًا: المحافظةُ على الماءِ وعدمُ الإسرافِ فيه.

لقد دعانَا الإسلامُ إلى نظافةِ المياهِ وذلكَ بالمحافظةِ على تنقيتِهَا وطهارتِهَا، وعدمِ إلقاءِ القاذوراتِ والمخلفاتِ والبقايَا فيهَا، باعتبارِ أنَّ الماءَ أساسُ الحياةِ، وقد جاءتْ أوامرُهُ  ناهيةً عن أنْ يُبالَ في الماءِ الراكدِ، فَعَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ : ” أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ” (مسلم) ، كما يشملُ النهيُ البولَ في الماءِ الجارِي وفي أماكنِ الظلِّ باعتبارِهَا أماكنُ يركنُ إليهَا المارةُ للراحةِ مِن وعثاءِ السفرِ، وعناءِ المسيرِ، وربَّمَا لأنَّ الشمسَ لا تدخلهَا فلا تتطهرُ فتصبحُ محطَّ الأوبئةِ وموضعَ الأمراضِ، وفي الحديثِ: ” لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ ” (متفق عليه).

كذلك نهَى  عن الإسرافِ في الوضوءِ، فعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ  يَسْأَلُهُ عَنْ الْوُضُوءِ؟ فَأَرَاهُ الْوُضُوءَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا. ثُمَّ قَالَ:” هَكَذَا الْوُضُوءُ؛ فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ “(ابن ماجة والنسائي بسند حسن)، وإذا كانَ هذا في شأنِ عبادةٍ، فمَا ظنُّكَ بمَا دونِ العبادةِ ؟!!!

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ  مَرَّ بِسَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ ، فَقَالَ : مَا هَذَا السَّرَفُ ؟ فَقَالَ : أَفِي الْوُضُوءِ إِسْرَافٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهَرٍ جَارٍ. ”  (أحمد وابن ماجة).

إنَّ اللهَ سبحانَهُ وتعالى قد وعدَنَا بالمزيدِ إنْ شكرنَا نعمةَ الماءِ، وبالعذابِ إنْ أسرفنَا في استخدامِهَا، حيثُ قالَ: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7)، فالماءُ نعمةٌ فإذا استخدمتَهُ في طاعةٍ وحافظتَ عليهِ فقد شكرتَ النعمةَ وأديتَ حقَّهَا، فبذلك تُنَالُ الرحمةُ والمغفرةُ، أمَّا إذا استخدمتَهُ في معصيةٍ وأسرفتَ فيهِ فقد ظلمتَ نفسَكَ وكفرتَ بالنعمةِ ولم تؤدِّ حقَّهَا فبذلك دخلتَ في دائرةِ الظلمِ والكفرانِ !!

إذًا فالمــاءُ نعمةٌ عظيمةٌ تحتاجُ إلى الشكرِ، وإنَّ شُكْرَ اللهِ تباركَ وتعالَى على نِعْمَةِ الماءِ لا يقتصرُ على الشُّكْرِ باللسانِ، بلْ يَتعدَّاهُ إلى الشُّكْرِ بِحُسْنِ التَّصرُّفِ فيهِ وحُسْنِ استِغْلاَلِه، والاقتصادِ والتَّرشِيدِ في استِعمالِه، فأَيُّ إِسْرافٍ في استِعْمَالِ الماءِ هوَ تصرُّفٌ سيّءٌ وسلوكٌ غيرُ حَميدٍ، جاءَ النهيُ عنهُ صَرِيحاً في القُرآنِ المجيدِ، يقولُ اللهُ تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف:31) وإذا كانَ الإسرافُ في استعمالِ الماءِ لِلشُّربِ مَنْهيّاً عنهُ وممنوعاً مِنْهُ؛ فإِنَّ استعمالَه بإِسْرافٍ في مجالاتٍ أُخْرَى أَكْثَرُ مَنْعاً وأشدُّ خَطَراً.

ثالثًا: الذنوبُ والمعاصِي وأثرُهَا على حجبِ نعمةِ الماءِ.

إنَّ المعاصِي والذنوبَ وارتكابَ المحرماتِ لهَا أثرُهَا السيئُ في حجبِ النعمِ والبركاتِ عامةً ونعمةِ الماءِ خاصةً، قالَ تعالى:{ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً}[الجـن:16]، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ  قَالَ: ” قَالَ رَبُّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ: لَوْ أَنَّ عِبَادِي أَطَاعُونِي لَأَسْقَيْتُهُمْ الْمَطَرَ بِاللَّيْلِ وَأَطْلَعْتُ عَلَيْهِمْ الشَّمْسَ بِالنَّهَارِ؛ وَلَمَا أَسْمَعْتُهُمْ صَوْتَ الرَّعْدِ “. (أحمد والحاكم وصححه). فمدارُ إمساكِ المطرِ وحجبهِ أو إنزالهِ وإدرارهِ على المنعِ والعطاءِ مِن العبدِ نفسِهِ وبكسبِهِ. ” لذلك كان الحسنُ البصريُّ -رحمَهُ اللهُ- إذا رأىَ السحابَ قال: في هذهِ واللهِ رزقُكُم، ولكنّكُم تحُرمُونَهُ بخطاياكُم وذنوبِكُم. وقالَ اللهَ تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]، فالرزقُ المطرُ، وما توعدونَ بهِ الجنة، وكلاهُمَا في السماءِ”. (كتاب المطر والرعد والبرق لابن أبي الدنيا).

ومِن أقوالِ السلفِ في ذلكَ: ” قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ الْبَهَائِمَ تَلْعَنُ عُصَاةَ بَنِي آدَمَ إِذَا اشْتَدَّتِ السَّنَةُ، وَأُمْسِكَ الْمَطَرُ، وَتَقُولُ: هَذَا بِشُؤْمِ مَعْصِيَةِ ابْنِ آدَمَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: دَوَابُّ الْأَرْضِ وَهَوَامُّهَا حَتَّى الْخَنَافِسُ وَالْعَقَارِبُ، يَقُولُونَ: مُنِعْنَا الْقَطْرَ بِذُنُوبِ بَنِي آدَمَ.” (الداء والدواء لابن القيم).

وإليكُم هذه القصةَ والتي فيهَا العبرةُ والغرضُ المنشودُ، وهي مِن الإسرائيلياتِ التي نستأنسُ ونستشهدُ بهَا، وقد ذكرَهَا الإمامُ ابنُ قدامةَ في كتابِهِ التوابينَ فقال:” روي أنّهُ لحقَ بنِي إسرائيلَ قحطٌ على عهدِ موسَى عليهِ السلامُ فاجتمعَ الناسُ إليهِ فقالُوا: يا كليمَ اللهِ! ادعُ لنَا ربّكَ أنْ يسقينَا الغيثَ فقامَ معهُم وخرجُوا إلى الصحراءِ وهم سبعونَ ألفاً أو يزيدونَ فقالَ موسَى عليهِ السلامُ: إلهِي! اسقنَا غيثَكَ: وانشرْ علينَا رحمتَكَ وارحمنَا بالأطفالِ الرضعِ والبهائمِ الرتعِ والمشايخِ الركعِ فما زادت السماءُ إلّا تقشعاً والشمسُ إلّا حرارةً، فأوحَى اللهُ إليهِ: يا موسَى كيفَ وفيكُم عبدٌ يبارزُنِي منذُ أربعينَ سنةً بالمعاصِي؟! فنادِ في الناسِ حتى يخرجَ مِن بينِ أظهرِكُم فبهِ منعتُكُم فقالَ: موسَى إلهِي وسيدِي! أنا عبدٌ ضعيفٌ وصوتِي ضعيفٌ فأينَ يبلغُ وهم سبعونَ ألفاً أو يزيدونَ؟ فأوحَى اللهُ إليهِ: منكَ النداءُ ومنِّي البلاغُ فقامَ منادياً وقال: يا أيُّها العبدُ العاصِي الذي يبارزُ اللهَ منذُ أربعينَ سنةً! اخرجْ مِن بينِ أظهرِنَا فبكَ مُنعنَا المطر، فقامَ العبدُ العاصِي فنظرَ ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمالِ فلم يرَ أحداً خرجَ، فعلمَ أنّهُ المطلوبُ فقالَ في نفسِهِ: إنْ أنا خرجتُ مِن بينِ هذا الخلقِ افتضحتُ على رؤوسِ بنِي إسرائيلَ وإنْ قعدتُ معهُم مُنعُوا لأجلِي، فأدخلَ رأسَهُ في ثيابِهِ نادماً على فعالِهِ وقال: إلهِي وسيدِي! عصيتُكَ أربعينَ سنةً وأمهلتنِي وقد أتيتُكَ طائعاً فاقبلنِي فلم يستتمَّ الكلامَ حتى ارتفعتْ سحابةٌ بيضاءُ فأمطرتْ كأفواهِ القربِ، فقالَ موسَى: إلهِي وسيدِي! بماذا سقيتَنَا وما خرجَ مِن بينِ أظهرِنَا أحدٌ؟ فقالَ: يا موسَى! سقيتُكُم بالذي بهِ منعتكُم، فقالَ موسَى: إلهِي! أرنِي هذا العبدَ الطائعَ، فقالَ: يا موسَى! إنِّي لم أفضحْهُ وهو يعصينِي ؛ أأفضحُهُ وهو يطيعنِي؟!”.

فعليكُم بدوامِ الاستغفارِ والتوبةِ والرجوعِ إلى اللهِ تعالِى، والعملِ بكتابِهِ وسنةِ نبيِّهِ ؛ حتى يُصبَّ اللهُ علينَا الخيرَ صبًّا، قالَ اللهُ تعالى: { وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ } (هود: 52).

أيُّها الإخوةُ المؤمنون: وحيثُ أنَّنَا نتحدثُ عنِ المعاصي والذنوبِ وآثارِهِا على حجبِ نعمةِ الماءِ، فإنَّ هناكَ ظاهرةٌ خطيرةٌ منتشرةٌ في مجتمعِنَا المعاصرِ أحببتُ أنْ أنبهَ عليهَا أحبابِي وآبائِي وأبنائِي ألَا وهي ظاهرةُ (القمارِ) والتي عبَّرَ عنها القرآنُ بــ (الميسرِ)، وبيّنَ خطورتَهَا وأنَّها رجسٌ مِن عملِ الشيطانِ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (المائدة: 90 ، 91). والقمارُ لهُ صورهُ الكثيرةُ المعروفةُ وأشهرُهَا (اللعبُ بالرهانِ)، كذلك القمارُ في الفضاءِ الإلكترونِي عبرَ الوسائلِ والطرقِ المتنوعةِ والمستحدثةِ، وإذا كان الإسلامُ حرّمَ الصورَ المباشرةَ على أرضِ الواقعِ، فإنَّ حرمةَ القمارِ عبرَ الفضاءِ الإكترونِي أشدُّ حرمةً وخطرًا، لمَا تحدثُهُ مِن عداواتٍ وبغضاءَ وكراهيةٍ، فضلًا عن أنّهَا قد تصلُ باللاعبِ إلى بيعِ منزلِهِ أو أرضِهِ أو تدميرِ نفسِه وأسرتِه جراءَ هذه اللعبةِ.

نسألُ اللهَ أنْ يصبَّ علينَا الخيرَ صبًّا صبًّا وأنْ لا يجعلَ عيشَنَا كدًّا كدًّا .

زر الذهاب إلى الأعلى