الشيخ جمال فراج يكتب “الحياء خير كله” في خطبة الجمعة
" الحياء من الإيمان . . . و هو للحرة العفيفة عنوان "
الحَيَاءَ شَمْسُ الأَخْلَاقِ وَنِبْرَاسُهَا، ودُرَّةُ القِيَمِ وَتَاجُهَا، فَإِذَا كَانَ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا فَإِنَّ خُلُقَ الإِسْلَامِ هُوَ الحَيَاءُ، وَالحَيَاءُ وَالإِيمَانُ قُرَنَاءُ جَمِيعًا، وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ، وَإِذَا كَانَ مَقَامُ الإِحْسَانِ أَنْ تَعْبدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنَّ بَابَ الإِحْسَانِ هُوَ الحَيَاءُ.
الحمد لله رب العالمين ، و صلى الله على نبينا محمد ، و على آله و صحبه و سلم
قال صلى الله عليه و سلم : ” إن لكل دين خلقاً و إن خلق الإسلام الحياء ”
أخرجه ابن ماجة رحمه الله – و قال الشيخ الألباني في صحيح الجامع : ” حسن ”
و معنى هذا أن الحياء ينبغي أن يكون خلق أصيل لدى كل مسلم ، إذ به يتميز و يعرف ، و أن قلة الحياء عارض ينشأ من الشيطان و النفس الأمارة بالسوء ، يزول بزوال أسبابه من اتباع الشيطان و هوى النفس متى ما استقام للإنسان دينه . فقد قال صلى الله عليه و سلم في الحديث المتفق عليه ” و الحياء شعبة من الإيمان ”
ما هو الحياء ؟
” هو صفة في النفس تحمل الإنسان على فعل ما يجمل و يزين ، و يترك ما يدنس و يشين ، فتجده إذا فعل شيئاً يخالف المروءة استحيا من الناس ، و إذا فعل شيئاً محرماً استحيا من الله ، و إذا ترك واجباً استحيا من الله ، و إذا ترك ما ينبغي فعله استحيا من الناس ” .
و بهذا يعلم أن الحياء من الله من الإيمان ، كذلك الحياء من الناس من الإيمان ، و هذا ليس من الرياء بل يترك المستحيي فعل ما يعاب به تجملاً و تزيناً ، كما يترك المتقي ما فيه شبهة استبراء لدينه من النقص ، و لعرضه من الطعن فيه .
فضل الحياء :
1- كفى به فضلاً أنه صفة لله عز و جل ، قال صلى الله عليه و سلم : ” إن الله حيي ستير ، يحب الحياء و الستر ، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر ” رواه أحمد ، و أبو داود ، و النسائي – رحمهم الله – و قال الألباني في صحيح الجامع : ” صحيح ” .
و هي صفة نثبتها لله عز و جل على الوجه الذي يليق به سبحانه ، دون تكييف و لا تشبيه و لا تمثيل .
2- و كفى به فضلاً آخر أن الله سبحانه و تعالى يحبه – كما في الحديث السابق –
3- وهو حلية الأنبياء عليهم صلوات الله و سلامه جميعهم ، وقد كان صلى الله عليه و سلم أشد حياء من العذراء في خدرها – كما جاء في الحديث المتفق عليه –
4- و هو سمت الصالحين في الأمم السابقة ، من أمثال المرأة الصالحة بنت الرجل الصالح التي جاءت إلى موسى عليه الصلاة و السلام على صفة ذكرها الله في كتابه فقال عز و جل : ( فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ) جاءت مستترة قد وضعت كم درعها على وجهها حياء تغطيه ، و يحسن بعض القراء في الوقوف على قول الله عز وجل ( تمشي على استحياء ) فإذا تابع القراءة قرأ ( على استحياء قالت ) ليقع في روع المستمع أن مشيتها كانت على استحياء ، و كذا قولها و خطابها كان على استحياء . و تأمل الحياء في قولها : ( إن أبي يدعوك ) بدلاً عن ( تعال معي ) و إلى البعد عن كل ريب ببيان سبب الدعوة : ( ليجزيك أجر ما سقيت لنا ) ، و به يتحقق أيضاً طمأنة المدعو .
5- وهو سمت صالحي هذه الأمة ، قال صلى الله عليه و سلم : ” إن عثمان رجل حيي ” أخرجه مسلم .
6- و هو صفة للملائكة ، قال صلى الله عليه و سلم في عثمان – رضي الله عنه – : ” ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة ” . أخرجه مسلم .
و السؤال : من بقي من المخلوقات ليست صفته الحياء ؟
7- وردت في الحياء أحاديث عدة تدل على فضله ، و تحث عليه ، أو تحذر من فقده ، و قد سبق بعض منها ، و فيما يلي بعض أخر:
* قال صلى الله عليه و سلم في حديث متفق على صحته : ” الحياء لا يأتي إلا بخير ”
* وقال عليه الصلاة و السلام في الحديث الصحيح : ” الحياء خير كله ” أو ” الحياء كله خير ” .
* وقال صلى الله عليه و سلم : ” إن الحياء و الإيمان قرنا جميعاً ، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر” قال الألباني : ” صحيح ”
* و قال صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح : ” إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت ” .
قصتان كلما تأملتهما عجبت :
* فأما الأولى فقد أوردها البخاري – رحمه الله – في صحيحه ، و مضمونها : جاءت أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقالت : يا رسول الله ، إن الله لا يستحيي من الحق . فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت ؟ قال صلى الله عليه و سلم : ” نعم . إذا رأت الماء ” فغطت أم سلمة – تعني وجهها – و قالت : يا رسول الله . و تحتلم المرأة ؟ قال : ” نعم تربت يمينك ، فبم يشبهها ولدها ”
فما أدري من أيهما أعجب ، من السائلة – رضي الله عنها – التي فقهت أن الحياء لا يمنع من السؤال عما تجب معرفته من أمور الدين ، التي قد يستحيا من ذكرها عادة ، فقدمت بمقدمة بديعة تدل على أدب جم و حياء ” إن الله لا يستحيي من الحق ” و كأني بها تقول بلسان الحال : لو لم يكن الأمر دين يتقرب لله بمعرفته لما سألت . أم أعجب من أم المؤمنين – رضي الله عنها- و المسؤول زوجها النبي الكريم صلى الله عليه و سلم ، و تغطي وجهها حين تسأله عما يستحيا من ذكره .
* و أما الثانية فقصة ابن عمر – رضي الله عنهما- التي يرويها بقوله : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ” إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها ، و إنها مَثَلُ المسلم ، فحدثوني ما هي ؟ فوقع الناس في شجر البوادي ، قال عبد الله : و وقع في نفسي أنها النخلة ، فاستحييت ، ثم قالوا حدثنا ما هي يا رسول الله . قال : ” هي النخلة ” .
فأتذكره – رضي الله عنه – كلما رأيت أحد فتياننا أو فتياتنا أحداثاً صغار السن يتعاملون مع بعض أقاربهم ، و معلميهم و الباعة ، و جيرانهم ، و غيرهم معاملة الأنداد و الأقران الذين يتخالفون فيما بينهم و لا يعرفون للخلاف أدباً يتأدبون به و هم أقران ، فكيف و هم مع من يكبرهم سناً و علماً و قدراً ، أتذكره – رضي الله عنه – كلما رأيتهم يردون الكلمة بالكلمة ، و الفعل بالفعل ، دون رادع من خوف أو أدب ، و بعض الكبار يباركون هذا ، و يشجعونه ، بحجة إبداء الرأي ، و التعبير عنه ، و التعود على الجرأة ، و البعد عن الكبت ، و ما تنبهوا أنهم بهذا يسلبونهم خصلة يحبها الله في عباده ، قال صلى الله عليه و سلم للأشج العَصَري : ” إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم و الحياء ” . أخرجه ابن ماجة – رحمه الله – و قال الألباني – رحمه الله – ” صحيح ” .
قولي (… ) لمن قال ( … ) :
هذه عبارات شاع استعمالها بين الناس ، بعضها خطأ محض ، و بعضها تركها أولى :
1- ” لا حياء في الدين ” ، و هي عبارة يقصد بها قصداً صحيحاً ، و هي أن الحياء لا يمنع من السؤال عما يحتاجه المرء من أمور دينه ، لكن الظاهر أن صياغة العبارة غير سليمة ، و يستعاض عنها بما قالته الصحابية أم سليم – رضي الله عنها – بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم ” إن الله لا يستحيي من الحق ” .
2- “هذه مسألة خلافية ” جملة ما أكثر ما ترددت على أسماعنا كلما تحدثنا عن أمور ا للباس ، و ستر العورات ، فقولي لمن قالت ذلك : ” و لكن الحياء لا خلاف فيه ” .
3- ” قلبي من الداخل سليم ، و نيتي صافية ” عبارة طالما سمعناها ، حتى مللناها ، و كأننا إن طلب منا الحق فبيناه ، أو ابتدأنا بيانه قد أسأنا الظن بالناس ، و اتهمناهم بفساد ما انطوت عليه قلوبهم ، واعجباً من هذه الجملة كم صدت عن خير ، و كم أصابت في مقتل ، و كم تسببت من إحباط ،و كم قوت من شوكة الفساد و الشر، يرددها من لا يفقه معناها ، فهي حجة من أعجزته الحيل ، و انقطعت حجته ، و أفحم بالدليل فما وجد ما يرد به إلا إياها ، و لو أدرك معناها لعلم أنها حجة له لا عليه ، إذ قد يتزيا الفاسق بزي الصالحين لإربة له في تقليدهم ، لكن أنى يرضى الصالح أن يتزيا بزي الفاسقين ، و يظهر في هيئاتهم !! و قد نفهم أن يخدع الإنسان بمظهر من أمامه فيحسبه خيراً ، و هو من الأشرار ، لكن كيف نفهم أن يكون القلب خيراً صالحاً ، ثم لا ينبئ الظاهر عنه ، بل يشير إلى خلافه ؟ و المسلم كيس فطن لا تمر عليه هذه العبارة و أمثالها دون تأمل .
و الخلاصة : أن من قال عن نفسه : إن قلبه سليم ، و تراه مع هذا لا يبدو في هيئة الصالحين ، و يظهر من مظهره ما يكذب مخبره ، نقول له : تأمل كم في نصوص الشرع ما رتب فيه الحكم و العقوبة على أمر في الظاهر ، دون الإشارة لسلامة القلب و حسن القصد أو فساده ” مثل : النمص ، الوشم ، الوشر ، تشبه النساء بالرجال في اللباس و العكس … و اللبيب تكفيه الإشارة ، و كم من مريد للخير لم يصبه كما قال الصحابي الذي امتلأ علماً عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه ” و من رام الخير و استعان بالله هداه الله إليه بإذنه تكرماً منه و فضلاً .
4- ” لا بأس هذه متزوجة – تقال عند الخوض في أحاديث سمتها قلة الحياء لا حاجة لها و لا خير منها لدنيا و لا لدين ، أو اصبري ، غداً تتزوجين ، و تفعلين ما بدا لك – و تقال تصبيراً للبنت التي أتعبتها قيود الحشمة و التستر التي يلزمها بها أبوها – ” و كأني بهم يصمون المتزوجة بقلة الحياء ، و يسلبونها خصلة من شعب الإيمان سبحان الله ! هل الزواج في الإسلام إلا نقاء و طهر و عفة ، غض بصر ، و إحصان فرج ، فكيف به مدعاة للتبذل ، و التفسخ ؟ ! نعم المرأة المتزوجة تكون عادة أقدر على التعبير عن نفسها ، و إبداء رأيها ، و أجرأ غالباً في اتخاذ القرار، لأنها مسؤولة عن نفسها ، و راعية لرعية استرعاها الله عليها ، لكن أين في الشرع أو في العرف أن الزواج يسلب الحياء ، أو يقلله ؟ ! سبحانك ربي هذا بهتان عظيم .
و أخيراً قولي لكل واحدة : بك حبيبة يصبح هذا الخير المفقود ، قليل الأتباع ، خير عميم ، كثير الأتباع ، بك حبيبة تتغير صورة احتفالاتنا التي تظهر فيها عورات بعض المسلمات ، و تكشف فيها لحوم بعض البنات و الأمهات ، كأننا في مجزرة تباع فيها اللحوم فينتقى أجملها ليُنهش و يؤكل ، بعد أن قلب الناظر بصره لينتقي الأجود أو الأقبح ، و كل بذوقه يأكل ما يريد . لم لا ؟ و قد رخصت البضاعة ، وكثر العرض ، و فاق الطلب ، و إن كثر الطلب !!
بك أخية يتغير العنوان من ” خير كله أتباعه قلة ” إلى شعار ترتديه المسلمة حلية فوق الصدور ، و تاجاً فوق الرؤوس ، فيصبح :
” الحياء من الإيمان . . . و هو للحرة العفيفة عنوان “
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول ، فيتبعون أحسنه …. آمين
و الحمد لله أولاً و آخراً ، ظاهراً و باطناً ، و صلى الله على نبينا محمد ، و على آله و صحبه ، و من سار على نهجه ، و اقتفى أثره إلى يوم الدين ، و سلم تسليماً كثيراً .